خاض الباحث الشاب بكاري سامبي غمار بحث طويل ومتفرد حول العلاقات المغربية الأفريقية، عموما، والمغربية السينغالية خصوصا، المبنية على ميراث ديني مشترك تعود بداياته إلى الصفحات الأولى لدخول الإسلام إلى ما أطلق عليه المؤرخون العرب والمغاربة « بلاد السودان » أي البلدان ما تحت الصحراء بلغة الجغرافيا السياسية الحالية. ويقدم بكاري، وهو أستاذ العلوم السياسية، وباحث ضمن « مجموعة البحوث حول البحر المتوسط والشرق الأوسط » بمدينة ليون الفرنسية، رؤية جديدة في التفسير السياسي لعلاقات عميقة الجذور بين المغرب والطرق الصوفية بعدة بلدان أفريقية لا تخضع للنظريات السياسية المتداولة، ولا للسياسات الدبلوماسية المعروفة بين البلدان الحالية، إذ أنها تخرج عن المألوف الغربي باعتماد دبلوماسية دينية موغلة في التاريخ.
بكاري سامبي، الذي يتقن اللغة العربية، هو أيضا خبير مختص في علم السياسة والعلاقات العربية الأفريقية وحركات النضال الإسلامي والشبكات العابرة للدول، كما أنه خبير في المؤسسة الأوروبية للديمقراطية الموجودة في بروكسيل، جمع إلى جانب هذا انخراطه في الزاوية التيجانية ودفاعه عن التصوف خاصة في مدونته على الأنترنت، وهذا ما ساعده على الإلمام بقضايا البحث وإشكالاته وتقديم مزيد من البيان والتفسير.
ونظرا لقيمة الكتاب فقد جرى حفل تقديمه وتوقيعه بالسينغال بتعاون مع « دائرة السينغال-المغرب للصداقة والأخوة »، أمام حضور كبير وعلى رأسه وزير المالية السينغالي السيد عبدولاي ديوب، ووزير الجماعات المحلية السيد أليو ساو. كما حضر الحفل شخصيات عسكرية وممثلو مؤسسات ومفكرون وجمهور غفير من أتباع الطريقة التيجانية.
وأشار الباحث السينغالي، في كلمته، إلى أن هذا الكتاب يبرز العوامل التي تضمن للمغرب، « بلد الاشباع الروحي بالنسبة لملايين الأفارقة، من المرابطين إلى السعديين والمرينيين، والطرق العابرة للصحراء لشبكات الطريقة التيجانية، مكانته الدبلوماسية في أفريقيا » والقائمة على التاريخ وعلى كونه يشكل « نموذجا دينيا » بالأساس.
ومنذ مقدمة الكتاب يوضح بكاري مناهج البحث في العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية والأفريقية التي تهمل دور الإسلام في هذه العلاقات وتفسره تفسيرا اقتصاديا أو سياسيا أو مصلحيا، وتركز على المؤسسات، مهملة دور الأفراد والمجموعات والرموز. مضيفا أن بحثه هذا سيراهن على إعطاء البعد الروحي والديني مكانته الكاملة اعتمادا على أدوار الطرق الصوفية، خاصة الطريقة التيجانية في علاقات المغرب ودول جنوب الصحراء الأفريقية، وخاصة السينغال.
وخلافا لما جرى في الغرب من إبعاد للدين وبروز للفردانية، يرى الباحث أن التدين بقي محافظا على مكانته وشكله الجماعي في البلدان الأفريقية المسلمة، ومؤثرا في الحياة الاجتماعية، فلا يمكن الحديث عن علمنة في العلاقات الاجتماعية ولا عن تجديد في الدين، إذ بقي الشعور الديني بعيدا عن كل مساس.
الرسالة الدينية للمغرب
وأوضح الباحث أن المملكة المغربية آمنت دوما بأن القدر كتب عليها القيام برسالة دينية تجاه أفريقيا عموما، والدول القريبة منها خصوصا، ولذلك أخذت على عاتقها نشر الإسلام ورعايته في تلك المنطقة بطرق مختلفة منها الدعوة عن طريق القوافل التجارية، وعن طريق المدارس العلمية العتيقة، ناهيك عن القتال في سبيل الله إن اقتضى الأمر ذلك بناء على فتاوى العلماء.
وقدم الباحث نموذج المدارس العلمية التي كانت موجودة في بلاد شنقيط، موريتانيا حاليا. في المدرسة المغربية الشنقيطية تلقى العلم عدد من أبناء السينغال والممالك الأفريقية وتخرجوا منها عائدين إلى بلدانهم لنشر الدعوة والعلم والطريقة الصوفية، بفتح مدارس جديدة وزوايا جديدة. وذكر الباحث أن الطريقة التيجانية عرفت أوج تألقها ونشاطها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن أبرز رمز علمي وصوفي من رموزها كان هو الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي وتلاميذه، الذي تتلمذ على يد مؤسس الطريقة التيجانية سيدي أحمد التيجاني بفاس، وأخذ عنه الورد والطريقة ثم عينه خليفته في بلاده. وعند العودة قام هذا الخليفة بتخريج علماء وخلفاء آخرين نشروا الطريقة في بلدان أفريقيا الغربية، مثل الحاج عمر تال والشيخ الحاج مالك سي وآخرين.
وظل ولاء الطريقة التيجانية بالسينغال والدول المجاورة للمغرب يتعاظم حتى قام الملك المغربي محمد السادس بتعيين ممثل للطريقة السينغالية بالمغرب في شخص الشيخ محمد الكبير، كما أن وفود الحجاج والعمار السينغاليين صاروا يمرون أولا بفاس حيث ضريح مؤسس الطريقة التيجانية فيقيمون بها أياما قبل التوجه للمشرق لأداء مناسك الحج والعمرة. هذا فضلا عن أن إجازات التعليم والتربية على الطريقة لا تعطى إلا في فاس التي يعتبرها الأفارقة العاصمة الروحية والعلمية للمغرب.
الحج إلى فاس
« السفر إلى فاس ليس مصدر إشباع وجداني روحي داخلي فحسب، بل هو حظوة ومنزلة رفيعة في سلم الطريقة » على حد تعبير الباحث.
والحج إلى فاس كان له أكبر الأثر على السياسة الدينية للاستعمار الفرنسي بأفريقيا الغربية، فقد اجتهدت لقطع الحبال بين التيجانيين السينغاليين والمغاربة لإنهاك المقاومة في البلدين، لكنها فشلت في الأمر لجهلها بضخامة شبكات العلاقات الاجتماعية والعلمية بين الزاوية الأم وفروعها المنتشرة في الغرب الأفريقي. وقررت السلطات الفرنسية « سنغلة » الوفد المشرف على وفود الحجاج إلى فاس بتعيين أطر دينية سينغالية لضمان ولائها وتطبيع العلاقات معها.
لم تنجح محاولات الاستعمار الفرنسي في قطع العلاقات بين التيجانيين السينغاليين وفاس، واضطرت في النهاية إلى محاولة احتوائها وتنظيمها. ومن شدة التعلق بفاس، سعت بعض المدن السينغالية إلى تمتين العلاقات معها، وبرزت في هذا الشأن مدينة « تيفوان » التي استقر بها بعض رموز الطريقة التيجانية السينغاليين، منهم الحاج مالك سي، وتحولت إلى مركز روحي مهم حافظ على علاقات وثيقة مع فاس والمغرب عن طريق شبكات صوفية متعددة. ثم تطورت العلاقات إلى أن وصلت إلى علاقات شخصية قوية بين رموز الطريقة التيجانية السينغالية والعائلة العلوية الحاكمة بالمغرب، ظهر أسمى مظهر لها في الوفد التيجاني الذي شارك في استقبال الملك الراحل محمد الخامس في مطار دكار وهو عائد من منفى مدغشقر إلى بلاده.
وفي عهد الملك الحسن الثاني بلغت العلاقات ذروتها إذ قام الملك بتدشين المسجد الأعظم بدكار سنة 1963، وهو المسجد الذي اختار الكاتب أن يجعل صورته غلافا للكتاب. وألقى خطيبه التيجاني خطبتين بليغتين أمام « أمير المؤمنين ».
« أمير المؤمنين » حتى بالسينغال
وبعد رحيل الاستعمار ظلت العلاقات الشعبية العفوية هي السائدة. ولتجنب بعض المشاكل والاحتكاكات فكر المغرب في تنظيم العلاقة تنظيما رسميان فأنشأ « رابطة علماء المغرب والسينغال للصداقة والتعاون الإسلامي » في 3 يونيو حزيران 1985، بالرباط تحت الرعاية المباشرة للملك الراحل الحسن الثاني، وممثل للرئيس السينغالي عبدو ضيوف. ويوضح المؤلف أن هذه الرابطة ظلت تحت قبضة المملكة المغربية بسبب التمويل الذي تكفلت به، وبسبب ملئها بالأطر التيجانية المؤيدة للمغرب. وعندما تولى الحكم بالمغرب محمد السادس حرص أشد الحرص على مواصلة العلاقات مع التيجانية السينغالية بتنظيم اللقاءات الثنائية وتوجيه الرسائل إلى ملتقياتها واحتضان شيوخها وزعمائها، كما أن شيوخ ومقدمي الزوايا التيجانية السينغالية ظلوا يعتبرون ملك المغرب شريفا وأميرا للمؤمنين.
وعندما قام الملك محمد السادس بأول جولة أفريقية له، حرص شيوخ الطائفة التيجانية على دعوة الأتباع لتخصيص استقبال يليق بمقام « أمير المؤمنين » كما فعل من قبل مع أبيه الحسن الثاني وجده محمد الخامس عندما زارا السينغال. ويؤكد الباحث أن جميع التيجانيين السينغاليين يعتبرون أن الملوك المغاربة هم رواد وحماة الطريقة حسب استطلاع قام به، مضيفا أن معظم السينغاليين يعتقدون أن مؤسس الطريقة التيجانية والملوك العلويين من أسرة واحدة.
لوبي ضاغط
ويؤكد الباحث أن الطرق والزوايا الصوفية الموالية للمغرب دينيا تشكل لوبيا ضاغطا لفائدة المغرب في القضايا السياسية الكبرى، لا سيما قضية الصحراء. فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لفائدة الجزائر أو جبهة البوليزاريو كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب.
وأضاف أنه عندما أحست الجزائر بأهمية هذا « السلاح » تحركت هي الأخرى لاستمالة التيجانيين معتمدة على أن سيدي أحمد التيجاني جزائري المولد والنشأة، فسعت لتنظيم ملتقى دولي للتيجانية فوق أراضيها، لكن المغرب رد عليها بتنظيم ملتقى مواز له حضره مئات من ممثلي ومقدمي الزوايا التيجانية بأفريقيا والعالم، لإظهار تفوقه وسبقه.
ويرى الباحث أن ظهور الإسلاميين الجدد بقوة في الجزائر هو الذي دفعها إلى استثمار العامل الصوفي لمكافحته، فضلا عن منافسة المغرب على الصعيد الدبلوماسي الديني. ويقول بكاري إن المغرب متفوق كثيرا على الجزائر في هذا المجال، غير أن عشرات الملايين من التيجانيين في نيجيريا يشكلون رهانا مستقبليا بالنظر إلى موقف لاغوس من قضية الصحراء.
سحابة صيف
في دجنبر 2007، ظهر سوء تفاهم بين المغرب والسينغال، إذ استدعت الرباط سفيرها بدكار على إثر تصريحات « سيئة » لعضو من حزب المعارضة في حكومة عبد اللاي واد، جاك بودان، السكرتير الوطني المكلف بالعلاقات الخارجية للحزب الاشتراكي السينغالي ووزير الخارجية في الحكومة السابقة لعبدو ضيوف. وكان هذا المسئول قد شارك في مؤتمر بتيفاريتي نظمته جبهة البوليزاريو بدعم جزائري. كما أن مسئولا بالحزب نفسه، أوسمان تانور ديينغ، قد أدلى بتصريحات مماثلة في تندوف. وهنا تحركت الآلة التيجانية بقادتها وقواعدها نحو مقر الحزب الاشتراكي السينغالي للاحتجاج وإنهاء التوتر وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها.
استمرارية وتوسع
ويتوقع بكاري أن يستمر الدور الروحي والدبلوماسي للتيجانية بين المغرب والدول الأفريقية المجاورة في السنوات المقبلة، ففي السينغال اكتسبت الزاوية دور الوسيط بين البلدين في السراء والضراء، وفي المغرب تعزز دورها بتعيين خلفاء وممثلين للتيجانيين السينغاليين في فاس والرباط ومراكش، فضلا عن الملتقى الدولي السنوي للتيجانيين بفاس القادمين من القارات الخمس.
ويؤكد في ختام كتابه أن « الفعالية السياسية للرموز الدينية حقيقة أدركها أخيرا الناشطون السياسيون، وسوف يستخدمونها لدعم الاستراتيجيات وتحقيق الأهداف الدبلوماسية ». فالدين والسياسة توأمان لا يفترقان في العلاقات المغربية الأفريقية، وبذلك يثبت المغرب حسن استثماره للعلاقات التاريخية مع البلدان الأفريقية وقبائلها وممالكها منذ الفتح الإسلامي إلى ما بعد رحيل الاستعمار الفرنسي.
غير أن الكاتب تجنب الحديث عن الآثار السلبية لهذا الاستثمار الديني على العلاقات الرسمية مع البلدان المعنية، ومزاحمة الرموز والشيوخ والزوايا لوزارات الخارجية ورؤساء الدول، وكيف كانت ردود أفعال تلك الدول إزاء ما يمكن اعتباره « تدخلا » من المغرب في الشؤون الداخلية لتلك البلدان.
ومن القضايا التي لم يستطع الباحث التفصيل فيها مكتفيا ببضع كلمات عنها، انخراط الطرق الصوفية السينغالية الباقية في شبكة العلاقات مع المغرب إسوة بالطريقة التيجانية، ويتعلق الأمر بالطريقة المريدية، وهي من الطرق القوية بالسينغال، والطريقة القادرية ولها وجود واسع وتشجيع رسمي بالمغرب، واعتبر بكاري أن هذه الخطوة هي توسيع في الولاء للعاهل المغربي وأمير المؤمنين ليشمل كافة مسلمي السينغال. وربما احتاج هذا التوسيع إلى دراسة أخرى، خاصة وأن كتابه هذا تطلب منه وقتا طويلا ولقاءات متعددة وأسفار بين المغرب والسينغال وفرنسا.
المؤلف بكاري سامبي
الطبعة الأولى 2010
دار النشر مرسم – الرباط
عدد الصفحات 240
عرض الحسن سرات
Laisser un commentaire
Vous devez être connecté pour rédiger un commentaire.